تواجه ألمانيا واحدة من أشد أزماتها الاقتصادية منذ عقود، ولا يوجد إجماع واضح حول كيفية التعامل معها. وبغض النظر عن نتائج الانتخابات القادمة، فإن البلاد في مأزق خطير. يتفق الاقتصاديون وقادة الأعمال وصناع القرار على نقطة واحدة: خطر التراجع الاقتصادي الدائم أصبح واقعًا لا يمكن تجاهله.
تعاني الشركات الألمانية من ارتفاع أسعار الطاقة، والبيروقراطية المفرطة، والمنافسة المتزايدة من الصين، مما يثقل كاهل الاقتصاد الوطني. بالإضافة إلى ذلك، فإن شيخوخة السكان تعني أن هناك عددًا أقل من العمال المؤهلين لشغل الوظائف المهمة. كما أن عقودًا من نقص الاستثمار في البنية التحتية بدأت تؤثر سلبًا على الاقتصاد، في حين أن التوترات التجارية العالمية تهدد مستقبل الصناعات التصديرية الألمانية، ما يجعلها أكثر عرضة للخسائر مقارنة بالدول الأخرى.
في مؤشر واضح على تزايد القلق الاقتصادي، اختارت لجنة من الاقتصاديين والصحفيين مصطلح “إلغاء التصنيع” ككلمة الأعمال لعام 2024، متجاوزة عبارات مثل “وحش البيروقراطية” و**“تراكم التحولات”**. ورغم الاختلاف في التسمية، فإن الحقيقة تبقى ثابتة: هناك أزمة عميقة تحتاج إلى حلول جذرية.
رهانات سياسية غير مضمونة
يطرح المرشح الأبرز لمنصب المستشار، فريدريش ميرتس، نفسه كمصلح اقتصادي، واعدًا بـ تخفيضات ضريبية واسعة لدعم الشركات وتعزيز النمو. لكنه لم يوضح كيفية تمويل هذه الخطة. فهو يتحدث عن الابتكار والنمو، لكنه غامض بشأن خططه لتقليص الإعانات الحكومية والخدمات الاجتماعية، مما يثير تساؤلات حول جدوى سياساته الاقتصادية.
أما الحزب الاشتراكي الديمقراطي، بقيادة المستشار الحالي أولاف شولتز، فيتبنى نهجًا مختلفًا، حيث يريد تخفيف القيود الدستورية على الديون لزيادة الإنفاق على التعليم والإسكان والبنية التحتية. لكنه لا يزال متمسكًا بالنموذج الصناعي التقليدي، متجاهلًا حقيقة أن الصناعة الألمانية لم تعد بنفس القوة التي كانت عليها في العقود الماضية. من جانبه، يراهن حزب الخضر على التكنولوجيا منخفضة الكربون لإحداث نهضة صناعية.
في هذا السياق، يؤكد شولتز أن “حماية المناخ” ستحقق نموًا اقتصاديًا مشابهًا لما شهدته البلاد خلال المعجزة الاقتصادية في الخمسينيات والستينيات. لكنه يغفل عن حقيقة أن ذلك النمو كان استثناءً تاريخيًا لا يمكن تكراره بسهولة.
أزمة متجذرة منذ الستينيات
لم تكن هذه المشاكل وليدة اللحظة. فمنذ منتصف الستينيات، بدأت مؤشرات التراجع الاقتصادي تظهر بوضوح، حيث عانت البلاد من:
✔ نقص الاستثمار في التكنولوجيا المستقبلية
✔ هجرة العقول إلى الولايات المتحدة
✔ الاعتماد المفرط على بعض الصناعات التصديرية مثل السيارات، والكيماويات، والآلات
ومع ذلك، فضّلت الحكومات المتعاقبة دعم الصناعات القديمة بدلًا من تطوير بدائل أكثر استدامة.
واليوم، تواجه صناعة السيارات والآلات المصير نفسه الذي واجهته صناعات الصلب والفحم قبل عقود. رغم أن ألمانيا لا تزال تمتلك فرصًا للنهوض من أزمتها، فإن تحقيق ذلك يتطلب استثمارات ضخمة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والتكنولوجيا النظيفة، وهو أمر قد يؤدي إلى إغلاق مصانع وتسريح آلاف العمال، مما يجعله قرارًا سياسيًا صعبًا.
السيناريو الأكثر ترجيحًا: حلول غير كافية
بعد الانتخابات، من المتوقع أن تتشكل حكومة ائتلافية بين الحزبين التقليديين، الديمقراطيين المسيحيين والديمقراطيين الاشتراكيين. في هذه الحالة، قد يقدم كل طرف بعض التنازلات، مما يؤدي إلى مزيج من التخفيضات الضريبية وزيادة الإنفاق الحكومي، وهو حل قد لا يكون كافيًا لمعالجة المشاكل الجوهرية.
ومن بين القضايا المثيرة للجدل، طرح ميرتس فكرة تخفيف القيود على الديون لتمويل زيادة الإنفاق العسكري، وهو ما قد يلقى معارضة قوية داخل حزبه نفسه. في المقابل، سيضطر الحزب الاشتراكي الديمقراطي إلى تقديم تنازلات، مما قد يؤدي إلى سياسة اقتصادية غير متماسكة، أشبه بالشعار الانتخابي الغامض لحملة شولتز: “المزيد لكم، الأفضل لألمانيا.”
هل يكون التراجع حتميًا؟
يرى عالم الاجتماع أندرياس ريخفيتز أن المجتمعات الغربية اعتادت على فكرة التقدم المستمر، لكنها قد تضطر اليوم إلى قبول حقيقة التراجع الحتمي، والتكيف معه بأفضل طريقة ممكنة.
وفي إشارة رمزية إلى هذا الواقع الجديد، يقتبس ريخفيتز بيتًا شعريًا للشاعرة الأمريكية إليزابيث بيشوب:
“فن الخسارة ليس صعبًا إتقانه.”
فهل سيكون “فن الخسارة” هو المهارة التي تحتاجها ألمانيا اليوم؟ وهل يمكن للألمان قبول فكرة الحياة الجيدة بدون نمو اقتصادي؟ هذه هي الأسئلة التي تحتاج البلاد إلى مواجهتها بصراحة، قبل أن تجد نفسها أمام واقع اقتصادي أكثر قسوة:
“أقل لكم، الأسوأ لألمانيا.”
ما العمل؟ طريق الإصلاح أم الاستسلام للواقع؟
بينما تواجه ألمانيا هذا التحدي المصيري، يتطلب الأمر قرارات جريئة وإصلاحات حقيقية بدلاً من الحلول المؤقتة والمساومات السياسية. يرى الخبراء أن البلاد بحاجة إلى استراتيجية طويلة الأمد تركز على:
1️⃣ تحفيز الابتكار والتكنولوجيا: الاستثمار في الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والتكنولوجيا الخضراء لتعزيز القدرة التنافسية عالميًا.
2️⃣ تقليل البيروقراطية: تسهيل الإجراءات الإدارية التي تعيق الشركات الناشئة والمستثمرين.
3️⃣ إصلاح نظام الضرائب والعمل: تقديم حوافز لجذب الاستثمارات ودعم الشركات الناشئة بدلاً من الاعتماد المفرط على الصناعات التقليدية.
4️⃣ معالجة أزمة العمالة: استقطاب الكفاءات من الخارج وسد الفجوة الناجمة عن شيخوخة السكان.
5️⃣ الاستثمار في البنية التحتية: تحسين الطرق، والسكك الحديدية، وشبكات الإنترنت، التي تُعتبر ضرورية لدعم الاقتصاد الرقمي الحديث.
الاختيار الصعب: المواجهة أم الركود؟
تحتاج ألمانيا إلى لحظة صراحة سياسية بعيدًا عن الشعارات الرنانة والوعود غير الواقعية. فالخيار واضح: إما اتخاذ خطوات جريئة نحو مستقبل جديد، أو الاستسلام للتراجع البطيء.
إن استمرار النهج الحالي لن يؤدي إلا إلى تفاقم الأزمة، حيث تزداد المخاوف من فقدان المكانة الاقتصادية العالمية التي لطالما تمتعت بها ألمانيا. والسؤال الأهم الآن هو: هل سيكون القادة السياسيون مستعدين للمخاطرة بإصلاحات جذرية، أم أن البلاد ستظل تراوح مكانها، في انتظار معجزة اقتصادية جديدة قد لا تأتي أبدًا؟
🔹 المستقبل لن ينتظر. على ألمانيا أن تختار طريقها الآن.