دورتموند– 31 يوليو 2025 | عرب 24
يشهد صيف 2025 تحولاً لافتًا في علاقة الجالية المغربية المقيمة بالخارج مع وطنها الأم. فبعد سنوات من تدفق آلاف المغاربة على المطارات والموانئ لقضاء العطلة في المغرب، يبدو أن هذا المشهد قد تغيّر.
على وسائل التواصل الاجتماعي، يتكرر الحديث عن “مقاطعة صيفية صامتة”، حيث اختار كثير من أبناء الجالية البقاء في دول الإقامة أو السفر إلى وجهات بديلة، وسط تساؤلات مشروعة: ما الذي تغيّر؟ ولماذا أصبحت زيارة الوطن خيارًا مؤجلاً، أو حتى مستبعَدًا؟
تكلفة الوصول إلى الوطن: عبء يفوق الطاقة
المعضلة بدأت من هنا: الأسعار.
منذ أكثر من عقد، ظل موضوع التنقل إلى المغرب – سواء عبر الطائرات أو الموانئ – أبرز تحدٍ تواجهه الجالية.
في الماضي، كانت تذكرة الطيران من باريس أو بروكسيل إلى الدار البيضاء أو فاس لا تتجاوز 150 يورو. أما اليوم، وفي ذروة الصيف، ارتفعت الأسعار إلى أكثر من 500 يورو للتذكرة الواحدة.
وبالتالي، عائلة مغربية مكونة من أربعة أشخاص قد تحتاج إلى ما يقارب 2800 يورو فقط للوصول إلى المغرب، دون احتساب المصاريف داخل البلد.
أمام هذه الأرقام، تبدأ المقارنات تلقائيًا. وجهات مثل تركيا، اليونان، جنوب إسبانيا، أو حتى مصر، تقدّم عروضًا سياحية متكاملة تشمل تذكرة الطيران، الإقامة، والأكل بأسعار لا تتعدى 1500 يورو للشخص – أحيانًا أقل.
فمن الطبيعي أن يُعيد كثيرون من أفراد الجالية تقييم أولوياتهم، ليس من باب القطيعة، بل من باب العقلانية الاقتصادية.
من جيل العودة إلى جيل البدائل
التحوّل لا يرتبط فقط بالمال، بل بتغيّر الأجيال.
الجيل الأول من مغاربة المهجر كان يرتبط عاطفيًا بالمغرب. بنى فيه بيتًا، واستثمر فيه عائداته، وكان يحلم بالعودة الدائمة.
أما الجيل الثاني والثالث – وهم الغالبية اليوم – فلا يملكون غالبًا عقارات في المغرب، ولا علاقات اجتماعية قوية كما كان الحال سابقًا.
زيارتهم للمغرب ترتبط غالبًا برغبة في صلة الرحم، أو بقضاء عطلة صيفية ممتعة.
لكن هذه الرغبة تصطدم بواقع جديد: غلاء الأسعار، وضعف التنظيم، وشعور عام بالاستغلال.
المغترب المستهدَف: بين الواقع والعروض البديلة
المشكلة تتفاقم بمجرد وصول الزائر إلى أرض الوطن.
فوضى الأسعار، غياب الرقابة، ومظاهر التحايل التجاري أصبحت شكاوى متكررة.
منشورات عديدة هذا الصيف توثق كراء منازل في مدن سياحية مثل السعيدية بـ 220 يورو لليلة الواحدة، رغم أنها بعيدة عن البحر ولا تتمتع بأي امتياز خاص.
كذلك، أسعار المقاهي والمطاعم أصبحت – بحسب شهادات موثقة – تفوق أسعار مدن أوروبية مثل برلين أو برشلونة. كأس شاي بـ50 درهمًا، ووجبة عشاء لفرد واحد تتجاوز 150 درهمًا، كلها مؤشرات على خلل في منظومة التسعير، وعلى نظرة تجارية قصيرة المدى ترى في الزائر فرصة موسمية للربح، لا إنسانًا يجب احترامه.
ثقافة “الغفلة”: عندما يتحول المثل الشعبي إلى سياسة ضمنية
في قلب هذا الخلل، تكمن إشكالية ثقافية أعمق.
في المغرب، يُردَّد المثل الشعبي: “الله يجعل الغفلة بين البايع والشاري.”
وهو مثل يعكس – دون مواربة – تبريرًا لاستغلال الزبون، بل تصويرًا له كنوع من “الذكاء” أو “الربح المشروع”.
لكن حين تتحول هذه المقولة إلى عقلية اقتصادية شاملة، يصبح الزائر – سواء كان مغتربًا أو سائحًا – ضحية ممارسات غير أخلاقية.
وحين تُترك القطاعات السياحية دون رقابة فعالة، يصبح من الطبيعي أن يبحث الزائر عن وجهات بديلة تُقدّر احترامه لا ماله فقط.
غياب الرقابة والسؤال الغائب: من المسؤول؟
الغياب الصارخ للجهات المختصة، وعلى رأسها وزارة السياحة والمجالس الجهوية، يثير الكثير من التساؤلات.
لماذا لا يتم ضبط أسعار الكراء والمطاعم والفنادق؟
من يراقب سائقي سيارات الأجرة؟
أين هي هيئات حماية المستهلك؟
وهل يُعقل أن يُترك ملايين المغاربة تحت رحمة سوق فوضوي يفتقر إلى الحد الأدنى من التنظيم؟
المواطن المغربي… ضحية ثانية لهذه الفوضى
ما يغيب عن الخطاب السائد هو أن المواطن المغربي المقيم في الداخل أصبح بدوره غير قادر على الاستفادة من السياحة في بلده.
حين يصل ثمن كأس شاي إلى 50 درهمًا، ووجبة غداء إلى 200 درهم، فإن السياحة الداخلية تتحول إلى رفاهية لا يقدر عليها أغلب المواطنين.
وهنا، تتعمق الأزمة: المغرب لا يخسر فقط الجالية، بل يخسر مواطنيه أيضًا، ممن يُقصَون من فضاءاتهم بسبب انفلات السوق.
خاتمة: الرسالة وصلت… فهل من رد؟
عزوف الجالية المغربية هذا الصيف ليس صدفة، ولا ظرفًا عابرًا.
إنه نتيجة تراكمات طويلة من الغلاء، وسوء التنظيم، وثقافة استغلال موسمية.
إنها رسالة احتجاج هادئة، لكنها حازمة:
“نحب وطننا، ولكننا نرفض أن نُعامل كمحافظ نقود تمشي على قدمين.”
الانتقال من عقلية “الغفلة” إلى عقلية “الجودة والاستدامة” لم يعد خيارًا، بل ضرورة.
وإذا لم تبادر الجهات المسؤولة إلى تصحيح المسار، فإن خسارة المغرب لن تقتصر على موسم صيف واحد، بل على علاقة ثقة عمرها عقود.