عندما يلوّح دونالد ترامب بأفكاره التي تتسم بالتهور والغطرسة، يبدو وكأنه يعيدنا إلى زمن الاستعمار القديم، حين كانت الدول الكبرى تنظر للعالم كرقعة شطرنج تسيطر عليها بالقوة. تصريحاته الطموحة والمثيرة للجدل، مثل شراء جزيرة غرينلاند، ضم كندا، تغيير اسم خليج المكسيك إلى “خليج أمريكا”، والسيطرة على قناة بنما، لا تُظهر سوى مزيج من الجهل بالتاريخ والجشع المفرط الذي يفتقر لأي رؤية استراتيجية حقيقية.
غرينلاند: وهم الاستحواذ
جزيرة غرينلاند، التي تبلغ مساحتها 2.16 مليون كيلومتر مربع وتعد الأكبر عالميًا، ليست مجرد بقعة جغرافية؛ إنها منطقة ذات سيادة خاضعة للحكم الذاتي ضمن مملكة الدنمارك. تبلغ قيمة مواردها المعدنية والنفطية المحتملة مليارات الدولارات، مما يفسر اهتمام ترامب بها. لكن هل فكر أن الدنمارك رفضت عرضًا أمريكيًا سابقًا عام 1946 لشراء نفس الجزيرة مقابل 100 مليون دولار؟ العالم اليوم لا يقبل أن يتم تحديد مصير الدول بسياسات الشراء والبيع.
كندا: ضم أم خيال سياسي؟
تصريحات ترامب حول ضم كندا، ثاني أكبر دولة في العالم بمساحة 9.9 مليون كيلومتر مربع، تعكس عدم فهمه للتاريخ والجغرافيا السياسية. كندا ليست مجرد جار هادئ؛ بل قوة اقتصادية كبرى بحجم تجارة مع الولايات المتحدة بلغ 714 مليار دولار عام 2022، منها 364 مليار دولار صادرات أمريكية. أي حديث عن “ضم” كندا لا يعدو كونه خيالًا يفتقر إلى الواقعية السياسية.
قناة بنما: مطمع استراتيجي منذ قرن
قناة بنما، التي تشهد مرور 14,000 سفينة سنويًا وتساهم في نقل 6% من التجارة العالمية، ليست مجرد ممر مائي. ترامب يبدو وكأنه يجهل أن الولايات المتحدة فقدت سيطرتها عليها منذ عام 1999 بعد أن ظلّت تديرها لأكثر من 85 عامًا. إعادة إحياء هذه الفكرة ليست فقط مستحيلة بل تحمل تكلفة سياسية هائلة ستؤدي إلى مواجهة مباشرة مع دول أمريكا اللاتينية التي تسعى للحد من النفوذ الأمريكي في المنطقة.
خليج المكسيك: بين التاريخ والجغرافيا
محاولة ترامب إعادة تسمية خليج المكسيك إلى “خليج أمريكا” ليست سوى انعكاس لغطرسة سياسية لا تعترف بالواقع. الخليج، الذي يبلغ طوله 1,600 كيلومتر، يمثل شريانًا اقتصاديًا لدول المنطقة، ويضم أكبر احتياطيات النفط البحرية في المكسيك والولايات المتحدة. تغيير الاسم لا يغير الحقائق الجغرافية أو التاريخية، لكنه يسلط الضوء على محاولاته المستمرة لفرض الهيمنة الرمزية.
قراءة في العقلية الترامبية
ترامب يتصرف كسياسي يرى القوة أداة وحيدة لتحقيق المصالح، متجاهلًا أن العالم اليوم يعيش تحولات جوهرية. القوى الصاعدة مثل الصين، التي بلغ ناتجها المحلي الإجمالي عام 2023 أكثر من 19.37 تريليون دولار، وروسيا، التي تواصل تعزيز نفوذها الجيوسياسي، تجعل من الصعب على أمريكا أن تتصرف كما كانت تفعل قبل قرن. العالم لم يعد ميدانًا للصراعات الأحادية، بل شبكة معقدة من المصالح المتداخلة.
الاستنتاج: الماضي لا يعود
ترامب ينسى – أو يتجاهل – أن محاولات إعادة عقارب الساعة إلى الوراء لن تنجح. مواجهة العالم اليوم ليست كمواجهة شعوب الهنود الحمر قبل أربعة قرون. الدول أصبحت أكثر وعيًا بسيادتها، والشعوب أكثر قدرة على الدفاع عن حقوقها. ورغم كل غطرسته، فإن القوة المطلقة التي يسعى لتحقيقها لا تجد مكانًا في عالم يتجه نحو التعددية القطبية.
يد الله فوق كل يد، والتاريخ علمنا أن المكر السيئ لا يصيب إلا أهله، وأن الجشع بلا أخلاق مصيره الفشل، مهما بلغ من قوة وجبروت.