برلين – 3 آب 2025 | بقلم رئيس التحرير – عرب 24
تمهيد: أوروبا تعترف… كي لا تُدان
في منتصف إحدى أعنف الكوارث الإنسانية في القرن الحادي والعشرين، حيث يتعرض أكثر من مليوني إنسان في قطاع غزة لحصار خانق، ومجازر موثّقة، وتدمير منهجي للبنية التحتية المدنية، تقف أوروبا أمام مرآتها التاريخية، فترى انعكاساً قبيحاً لعجزها المزمن.
لكنها لا تملك الشجاعة للاعتراف بذلك علناً، فتختار الهروب إلى الأمام، عبر خطوة دعائية: الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
هذا الاعتراف، الذي يبدو من الوهلة الأولى نصراً دبلوماسياً للفلسطينيين، لا يحمل في عمقه أي أدوات ضغط على إسرائيل، ولا أي ضمانات سيادية للفلسطينيين، ولا حتى سياق قانوني مُلزِم. بل هو في الحقيقة محاولة أوروبية لإعادة تشكيل صورتها أمام جمهورها المحلي، الذي بدأ يفقد ثقته في “القيم الغربية”، بعد أن رأى عشرات الآلاف من الجثث، معظمها من الأطفال، يُنتشل من تحت أنقاض غزة، دون أي رد فعل حقيقي.
أولاً: من الاعتراف الرمزي إلى الغسيل السياسي
الاعتراف الأوروبي لم ينبع من إيمان مفاجئ بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، بل جاء كنتيجة لضغط داخلي متصاعد.
فالمظاهرات المليونية التي خرجت في باريس، برلين، مدريد، لندن، وغيرها، لم تكن احتجاجاً عادياً، بل كانت تمرّداً شعبياً على صمت الحكومات الغربية، وتواطئها غير المباشر مع جرائم الحرب في غزة.
الاعتراف، في هذا السياق، ليس سوى غسيل سياسي للعار الأخلاقي الأوروبي. الحكومات، خصوصاً في فرنسا وألمانيا، واجهت تراجعاً حاداً في شعبيتها، وسط اتهامات من منظمات حقوقية بأنها تساهم فعلياً في القتل، عبر صفقات السلاح والدعم غير المشروط لإسرائيل.
إذاً، نحن لا نُواجه تحوّلاً في الموقف الأوروبي من الصراع، بل تحوّلاً في أدوات التبرير الأوروبي لهذا الموقف. الاعتراف يُستخدم هنا كمُسكّن أخلاقي، لا كمشروع سيادي حقيقي.
ثانياً: اعتراف مشروط… يُفرّغ فكرة “الدولة” من مضمونها
إن أخطر ما في “اعتراف 2025” أنه مشروط سياسياً وأمنياً، بشروط تُفرغ الفكرة نفسها من مضمونها:
- بريطانيا تشترط أن لا تكون حماس طرفاً في السلطة الفلسطينية.
- كندا تطالب بإجراء إصلاحات شاملة في مؤسسات السلطة.
- فرنسا تلوّح بأن الاعتراف يجب أن يقترن بـ”ضمانات أمنية” لإسرائيل.
كل هذه الشروط لا تصبّ في تمكين الفلسطينيين، بل في تحجيمهم. المطلوب من الفلسطيني أن “يُثبت” أنه مؤهل للسيادة، بينما لا يُطلب من دولة الاحتلال أن تُثبت شيئاً، رغم سجلها الحافل بالعدوان والقتل والتطهير العرقي.
هكذا يصبح الاعتراف أداة لفرض هندسة سياسية جديدة على الفلسطينيين:
دولة منزوعة السيادة، منزوعة السلاح، منزوعة الإرادة، تتحدث باسمها سلطة غير منتخبة، وتُحكم بشروط غربية تُراعي أمن إسرائيل قبل مصالح شعبها.
ثالثاً: هل تعني العودة إلى المسار السياسي إنهاء الحرب؟
في الواقع، الحديث عن “عودة المسار السياسي” أو “حل الدولتين” أصبح عبثاً سياسياً. فالميدان تجاوز هذا الخطاب منذ سنوات. إسرائيل تُعيد تشكيل الجغرافيا بالقوة. منذ 7 أكتوبر، دمّرت ما يزيد عن 70% من منشآت قطاع غزة، وأعلنت نواياها لفرض “حزام أمني” في رفح وخان يونس.
في الضفة الغربية، لا توجد سيادة فلسطينية تُذكر، والمستوطنات ابتلعت أكثر من 40% من الأراضي المصنفة (C)، والجيش الإسرائيلي يدخل رام الله وجنين ونابلس دون استئذان.
فأين الدولة التي تعترف بها أوروبا؟
هل هي في غزة المحاصرة، التي تُقصف ليل نهار؟
أم في الضفة المحكومة بقوة الأمر الواقع؟
أم في المنفى السياسي الذي تتخيله باريس ولندن؟
الاعتراف لا يعني شيئاً ما لم يُرفق بخطوات تُغيّر ميزان القوى على الأرض. ولا توجد دولة وُلدت من اعتراف، بل من قدرة سياسية ومقاومة ميدانية وشرعية داخلية. وأوروبا تُدرك ذلك جيداً، لكنها تُراهن على الزمن لتجاوز صدمة الحرب.
رابعاً: السلطة الفلسطينية… الدور الوظيفي مستمر
في خضم هذه المأساة، لم تظهر السلطة الفلسطينية كقوة سياسية قادرة على التفاوض أو تمثيل مصالح شعبها. بل على العكس، بدت وكأنها تُراهن على استمرار المجازر في غزة، لتتمكن من العودة إلى القطاع لاحقاً بغطاء دولي.
بدلاً من اتخاذ موقف حازم تجاه إسرائيل، اختارت رام الله الهجوم على حماس.
بدلاً من تشكيل حكومة وحدة وطنية، طالبت بـ”تسليم السلاح”.
بدلاً من التوجّه للمحاكم الدولية، اكتفت بالبيانات الخجولة.
السلطة تبدو اليوم أشبه بـ”هيئة مؤقتة” تنتظر الضوء الأخضر الغربي لتسلّم غزة، لا أكثر. وهذا يُضعفها أكثر مما يُقوّيها.
فالفلسطيني لا يبحث عن سلطة إدارية، بل عن قيادة سياسية تُعبّر عن تطلعاته ودمائه، لا عن حسابات الدول المانحة.
خامساً: غياب الولايات المتحدة… يكشف خواء الاعتراف
في كل هذه الحملة، بقيت الولايات المتحدة على موقفها الصلب:
لا اعتراف، لا ضغط على إسرائيل، لا حديث عن وقف إطلاق النار دون تحرير الرهائن، ولا استعداد لإعادة إعمار غزة دون شروط.
واشنطن، حتى اللحظة، تُفكر بعقلية “المنطقة الآمنة”، وترفض فكرة الدولة الفلسطينية كأمر واقع. وهذا يعني أن الاعتراف الأوروبي سيبقى ناقصاً استراتيجياً، لأنه لا يملك دعم القوة العالمية الفاعلة.
الاعتراف بلا غطاء أميركي، هو خطوة رمزية تُستخدم لتجميل مشهد قاتم.
وإسرائيل، كما نعلم من تجربتنا، لا تتحرّك بقرار من باريس أو أوتاوا أو أوسلو، بل من واشنطن وتل أبيب.
خاتمة: اعتراف بلا سيادة… لا يبني دولة
الاعتراف بالدولة الفلسطينية هو انتصار لفظي فقط، ما لم يُرفق بخطوات تغيّر قواعد اللعبة:
- وقف تصدير السلاح لإسرائيل
- دعم محاسبة مجرمي الحرب
- فرض عقوبات اقتصادية
- ضمان حماية الفلسطينيين في غزة والضفة
وما لم يتحقق ذلك، فإننا أمام مسرحية دولية جديدة، تُعيد إنتاج “أوسلو” بثوب جديد، وتُحوّل الاعتراف إلى خطاب ناعم يُخفي وراءه فشل العالم في حماية شعب يُباد يومياً.
لن يُنقذ غزة بيان صحفي. ولن تعود القدس إلينا بشروط “أمن إسرائيل”.
الدولة تُصنع لا يُعترف بها.
والشعوب لا تنتصر بالوثائق، بل بالشرعية، والوحدة، والكرامة، والسلاح حين يُصبح آخر الحلول.